- Unknown
- 9:26 ص
- الشاعر عمرو الشيخ ، دراسات نقدية ، دراسات نقدية عني
- لاتوجد تعليقات
له أسطورته التي تخصه وتخصصه
قراءة في القسم الأول من ديوان ( قصائد تسعى وأخرى تصل ) للشاعر / عمرو الشيخ
بقلم / محمود عبد الصمد زكريا
تأسيس
إن فناً يخبئ لك سِرّاً ؛ هو وحده الفن.
نعم .. سوف تتمحور هذه القراءة حول هذا المعني ..
ولنبدأ من ( عيار الشعر - لابن طباطبا العلوي الذي نشر حوالي عام 900 م ) وفيه نقرأ : " من أحسن المعاني والحكايات في الشعر ؛ وأشدها استفزازاً لمن يسمعها ؛ الإبتداء بذكر ما يعلم السامع له إلي معني يساق القول فيه قبل استتمامه ؛ وقبل توسط العبارة عنه ؛ والتعريض الخفي الذي يكون بخفائه أبلغ في معناه من التصريح الظاهر الذي لا ستر دونه ؛ فموقع هذين عند الفهم كموقع البشري عند صاحبها ؛ لثقة الفهم بما يرد عليه من معناهما ..)
ثمة عيارين نقديين في هذا المقبوس
أولهما :
أن علي النص الجيد أن يهب الفرصة للمتلقي للحدس والتفطن ..
وثانيهما :
أن يصاغ النص وفقاً لمبدأ التلويح الذي يصون درجة من الخفاء ؛ بحيث يحرّض في المتلقي شهوة اختراق المستور ؛ والإلتقاء بالأسرار ..
وفي العيارين استدراج للعقل يسوقه الناقد بلطف ؛ ملوّحاً بالمكافاءة التي يستحقها المتلقي عن جدارة نتيجة لما بذله من جهد ؛ وهو ما يعني أن النص الجيد إنّما يعلّم بالإمتاع ؛ يتضح ذلك من لفظة ( البشري ) حيث يري في الصلة بين النص والمتلقي نوعاً من الوعد بنشوة وانتعاش لقد أدرك ابن طباطبا أن المتعة أساس القراءة .
فإذا انتقلنا من ابن طباطبا إلي الجرجاني 1100 م ؛ سنجد أن مبدأ التلويح الرمزي الذي قال به الثاني هو جذر عند الأول ؛ بل إن معظم المبادئ الكبري في نظرية الجرجاني مبثوثة علي هيئة نويات جنينية في عيار الشعر .. فما يقوله ابن طباطبا عن :
" تقريب البعيد وتأنيس الوحش حتي يعود مألوفا محبوبا ً " ..
وكذلك :
" إبعاد المألوف المأنوس به حتي يصير وحشياً غريباً " ..
كل ذلك هو صلب مذهب الجرجاني في التباعد وشهوة الإغراب .. لقد ابتكر هذا الأستاذ - الجرجاني - منهجاً مفتوحاً في استيعاب النصوص الأدبية ؛ خلاصته أن الكلام الفني " قولٌ راح السمع يسترقه أو يختلسه اختلاسا وهو يتصنت علي النائي والعميق ؛ ولذا فإن ما يندرج في النص من فحوي ومضمون هو جملة من العناصر التي من شأنها لدي التفسير والتأويل أن تتماوج وتتعدد باستمرار" أي ينبوع ثر يمكن للنقد المعاصر أن يشرب منه حد الأرتواء !!
لنتأمل ما ذهب إليه في أسرار البلاغة من أن الكلام الناجح ينطوي علي " شدة ائتلاف في شدة اختلاف " .. أو " الأسلوب الأدبي الفذ يجمع أعناق المتنافرات والمتباينات في ربقة ؛ ويعقد بين الأجنبيات معاقد نسب وشبكة " .
فرشة :
الشعرُ .. خزانةُ أسرارِ الشاعر . . لكن ثمة أسرارٌ تمنح نفسَها بمجرد انكشافها ؛ وأسرارٌ تنكشف مُلغزةً
لتدعونا لإعمال الفكرِ والثقافةِ والفنِ في محاولةِ لفك شفراتها حتى تستجيب للفهم وتقبل بالدخول إلى لُجةِ الإدراك وحينها نفوز بلذة الاكتشاف .. هل آن الأوانُ لإعادة أسئلتنا عن الشعر حتى تستجيب الإجابات ؟!
الصدقَ أقولُ لكم إننا بين يدي مشروعِ شعري يؤكد على أهمية ذلك .. حيث يلمح خطابُ شاعرنا بومضات يكتنفها روح التحدي أن خطابه الشعري لم يعد مجرد رسالة صماء بين مرسلِ هو الشاعر ومستقبل هو المتلقي ؛ إنه يرفض أن يكون خطابه ثمرة جاهزةً يلقيها على الآخر فيتذوق حلاوتها أو مرارتها كما هي راضياً سعيداً أو رافضاً مستنكراً ؛ أو أن يكون خطابُهُ خطاباً علوياً أو رسولياً يلقيه على الآخر من فوق منبر لا يقبل المناقشة أو الجدل ..
إنه يضرب مفهوم التلقي منذ عنوان ديوانه ( قصائد تسعى وأخرى تصل ) ولقد قدَّم القصائدَ التي تسعى على الأخرى التي تصل مؤكداً على ضرورة السعي قبل الوصول فإن وصلت وإن هي ظلت تسعى في سبيل الوصول .. ويأتي عنوان القسم الأول ( دائماً يكادُ ) مخلخلاً لقاعدة الصيرورة فالصياغة العادية أو المألوفة هي ( يكادُ دائماً ) وهي تحتاج لاستكمال العبارة يكاد دائماً ماذا .. لكنه هنا يجعل ( دائماً ) هى جواب ( يكاد ) لتكون العبارة ذات معنى كامل ويجعل من ( يكاد ) شرطاً ل ( دائماً ) .. وهكذا .. وإلاَّ فماذا نجيب على سبيل المثال لا الحصر عن ماهية هؤلاء اللواتي سيواجهن الليل الموصوف بالفارس الذي يباغت النهار في الغروب ثم يسأل : هل يواجهنه ظهيرةً ؟ ! ..
الصراع بين الليل والنهار فمن هن هؤلاء اللواتي يسأل الشاعر عن مواجهتهن لليل في الظهيرة ؟ ثم يتحول الخطاب إلى ال ( أنتَ ) والراجعة على الشاعر نفسه : وأنتَ لم تزل تعترض ؛ تقدس الشمس وتعشق احتضارها .. إلى آخر الدفقة الشعرية فهل هن صاحبات الاستضافة التي هي عنوان القصيدة ( استضافة ) .. ربَّما .... إنه المسكوت عنه والذي لن يتكشف إلاَّ بمعاشرة نصيَّية للنص في كليته .. وإلاَّ فماذا سيكون تلقينا للفظة ( فتضجر ) في هذا السياق : دقٌ يتصلْ بعد صمتٍ كان كبحرٍ نامت أمواجُهُ حتى وخزته مناقيرُ النورس والواجب أن يتضجر منفعلاً فتضحر .
هل هي أمر من الشاعر للصمت .. أم هي استجابة لجملة : والواجب أن يتضجر منفعلاً .. فتضجر ؟!!
لكلٍ منا أن يبدع نصَّه الخاصُ به من خلال نص الشاعر ؛ وسوف تتعدد النصوص وتتباين بتعدد القراء وتباين ثقافاتهم وأمزجتهم النفسية ؛ كما ستتعدد القراءات النقدية ؛ الأمر الذي يجعلني لا أدعي أن قراءتي هذه هي قراءة جامعة مانعة يؤخذ بها ؛ بل أقر راضياً مغتبطاً أنها مجرد قراءة ضمن قراءات كثرت أو قلت .. وإذن .. وأيّا ما كانت المناهج التي راحت تقيس أو تصنف درجات الشعرية في القول ؛ فسوف تظل الشعرية – عندي - : هي مدي تحقق فكرة انفتاح الوجود داخل الذات الشاعرة ؛ ومدي تبلور قدرة الممكن علي اللانهاية ؛ فيكون دائماً في الإمكان أبدع مما كان .. حيث كل جهد معرفي يثير شعوراً ؛ وكل شعور يحرك معرفة ً هو فتح ٌ لا يتوقف عند حد ؛أو – فتوح مكية – بحسب ابن عربي - .. وهذا مبدأ أولاني شامل ؛ ولا شك أنه مبدأ جدلي خصيب ؛ ومعطاء ؛ ولدي تطبيقه علي الأدب ؛ وخاصة الشعر ؛ فإنه سوف يفضي إلي فكرتين كبيرتين :
أولاهما :
تتلخص في حرية الإبداع مادام أن ليس ثمة حدود يرتطم بها العقل فيتعطل عندها .
ثانيتهما :
تنطوي علي أن النص الشعري يقبل شتي التفسيرات ؛ ومناهج التأويل والنقد دون أن يتمتع أي منها باحتكار المصداقية لنفسه ؛ أو بالحق في نفي الآخر ..؛ وهكذا تكون مساحة بلا تخوم قد انفتحت أمام كل من الشاعر والناقد معاً ؛ مما يعني أن كل انحباس داخل أية منظومة منهجية هو ضرب من التحجر والجمود ..؛
ومما هو ناصع تماماً أن القول بانفتاح الدلالة وانفتاح الوجود الدائم : الليل يباغت النهار في الغروب أنت تقدس الشمس وتعشق احتضارها صمت كان كبحرٍ نامت أمواجه حتى وخزته مناقير النور لسان مجدول من صمت ليشنق بعض الحروف القشور التي لم تَصح بالثمر لتواجه شمساً لم تغسل يدها من دماء السَحَرْ .. مائي شجريُّ الجَمالِ ؛ وهبته للقبائلِ ... الخ .. إنما يرمي إلي واقعية بلا حدود أو بلا ضفاف ؛ فمن طبع النفس الشاعرة أنها خيالية تتبرم بالحدود وتبغضها ؛ وهذا التبرم هو ما يدفعها إلي إفراز الرؤي ؛ وشتي صنوف الأخيلة التي تمكنها من الفرار إلي الرحاب الواسعة المنداحة بكل اتجاه ؛ أو بحسب القرآن :
" في كل واد ٍ يهيمون " ..
فبواسطة الخيال الإقتحامي يملك الروح البشري أن يولج في الوجود الحي ما يحتاج إليه من نكهة ومعني قادرين علي مكافحة اللامعقول ولو نسبيا ً ..
هكذا تختلف الشعرية مثلا ً مع علم النفس الحديث ؛ فبينما يزعم ذلك العلم بأن الخيال تعويض ؛ بل أن الفنون كلها تعويضات عن رغبات مكبوتة لم تنل حقها في الإشباع ؛ فإن الشعرية تري الأخيلة والفنون برمتها تكميل لما ينقص الوجود وتجميل له ؛ وهذا يعني أن الشاعر والفنان عموماً يملك أن يشارك في عملية الخلق عبر الفعل والخيال الإقتحامي البكر " والله أحسن الخالقين " .. ولعل في مقدوري الآن أن أعرِّف الشعرية علي أنها الانفلات من سجون المادة ؛ ثم الفرار صوب الكائن الذي تصير اللغة شعرا ً حين تقاربه أو تدانيه ؛ ألا وهو الشاعر .
عن إنتاج التجربة الشعرية تصويرياً :
لا شك أننا بين يدي شاعر ينتج تجربته الشعرية تصويرياً بامتياز فذ ..وغذا كانت الصورة الشعرية تنتج بدايةً من إيجاد علاقة بين محسوسين لا علاقة بينهما في الواقع ؛ ثم من انتاج علاقة بين حسي ومعنوي فإننا سوف نجد أن هذه التقنيات الفنية قد اشتملت خطاب شاعرنا في كليته وأدق تفاصيله : فالليل والنهار والغروب محسوسات والعلاقة الزمانية التتابعية بينهم في الواقع منطقية معروفة ومألوفة لكنهم حينما يأتون إلى شعر شاعرنا نجده قد أوجد بينهم علاقات ليست موجوده في الواقع حيث يصبح اليلُ فارساً ولا علاقة في الواقع بين الليل والفارس ثم أنه يباغت النهار في الغروب والمباغته علاقة غير واقعية بين الليل والنهار ويتحول الغروب من زمن انتقال طبيعي للنهار إلى الليل لحظة مباغتة ..
وهكذا بين الصمت المعنوي والبحر الذي نامت أمواجه وهذه العلاقة التي تنشأ من فعل الوخز بمناقير النورس – ولاحظوا أن الشاعر جاء بمناقير جمع منقار للنورس الفرد ولم يشأ أن يجمع النورس فيقول مناقير النوارس .. فقد استخدم النورس هنا كأسم جنس يدل على الجمع ؛ وإن المقصود نورس واحد لقال :
وخزات مناقير النورس ..
بعد ذلك سنجد العلاقة بين الصمت الذي أصبح حبالاً يجدل منها اللسان وهي علاقة لا وجود لها الواقع تنتج صورة تنساح وتمتد ليقوم هذا اللسان بشنق الحروف التي لم تصح بالثمر وهي علاقة أخري وتستمر الصورة في الامتداد لتواجه شمسا لم تغسل يدها علاقة أخري وهي تغسلها من دماء السحر علاقة أخري .. كل علاقة تنتج صورة وكل صورة تسلم لأخري يربطها جميعاً فعل الدق حتي أنيك إذا تابعت إنتاج التجربة تصويرياً فستد الصورة التوقيعة :
الليل فارس ..
تبدأ ثم تمتد وتنساح على جسد النص من الصورة البسيطة إلى المركبة صمت كان كبحر نامت أمواجه حتى وخزته مناقير النورس للصورة الممتدة وصولاً بعد انتهاءك من قراءة القصيد لتكتشف إنها في مجملها صورة .. نعم الصيدة كلها صورة أو لنقل إن الشاعر ينتج تجربته تصويرياً ..
شاعرنا إذن لا تقف الصورة عنده عند حد معين ولكنه ينتج لنا ما يمكن أن نطلق عليه بسينمائية الشعر .. نعم .. سينمائية الشعر ؛ حيث التصوير عند شاعرنا عبارة عن كادرات سينمائية متحركة تشاهدها وأنت تقرأ النص تتالي أمام عينيك : الرب الذي غزل الخلود والغيوب بثلجهِ القطني فوق نوله الذي يشابه البكاره .
لكنما في النفس خضرةٌ لها لون الجنوح . بينما السماء ُ تمطر فوق ما تشاؤه ..... ال .. ثمة تقنية تصويرية أخري ينجزها الشاعر خلال تجربته أو ينجز تجربته من خلالها أقترح تسميتها بالمزاوجة التصويرية .. ففي قصيدة ( البطريق ) أولى مجموعة قصائد تسعي وأخرى تصل ( ص 40 ) نلاحظ أن المقطع الأول خاص بالذات الشاعرة : على الدوام أتمنى أن أراني صاعداً نحو السماوات مضيئاً لحظة الوصول هل شوهد القمر فوق الأرض وهو يتمنى.. أمَّا المقطع الثاني من نفس الدفقة فهو خاص بالبطريق : إنما شوهدت السماء في عش البطاريق عسى لو رجعت عارفة أسرار أجنحتها ..
إن الصورة هنا تستخدم الطبيعة : القمر والسماء والأرض كعامل مشترك لتوطيد وجه الشبه بين الذات الشاعرة والبطريق في عدم قدرة كل منهما علي التحليق .. البطريق هنا رمز للشاعر كما سيكون العنكبوت والحمامة اللذان ينتظران نصيبهما من الوليمة على سبيل المثال في موضع آخر بقصيدة ( وليمة ) رمزاً آخر غير دلالتهما المعروفة في قصة الغار بين الرسول ( صلعم ) وأبى بكر وكفار قريش .. لا شك أن كل جديدٍ إنما خارجٌ من رحمٍ قديمة ٍ ليست هناك كتابة من الصفر ؛ ربما آدم وحده هو الذي بده العالم بخطاب طازج تماماً على الرغمٍ أيضاً من أنه قد تعلم الأسماء كلها أي أنه أيضاً بده العالم بخطاب طازج بالنسبة للعالم لكنه خارج من الله سبحانه وتعالى ..
وشاعرنا له تناصه الخاص فلم نجد مثلا أنه يتناص مع نصوص سابقة التجهيز لغيره ممن سبقوه من الشعراء أو يلجأ لتوظيف أساطير من أي نوع كما نجد ذلك شائعاً في جل المطروح الشعري المعاصر ؛ لكنه يتناص مع قصص القرآن الكريم ولا أقول مع لغة القرآن أو آياته ولكنه تحديداً مع قصصه وهو لا يستدعى القصة القرآنية كما هي إنما يتكئ عليها لإنتاج أسطورته التي تخصه وتخصصه ؛ ومن أمثلة ذلك تناصه مع قصة طوفان نوح : اغرق السماءَ طوفان ُ الدجى الذي سبي خصوبة السماء بهودج البوار خالعاً براعم الضياء كي تبقي عيوننا تلوك جوعها " وقيل يا سما ابلعي ضياءَك " .
وهو قد وضع السطر الأخير بين علامات التنصيص إشارة لكونه اقتباس من لغة القرآن وأنا لا أرى ضرورة لذلك حيث هو لم ينقل الآية الكريمة حرفياً والتي هي : " وقيل يا سماء أقلعي وغيض الماء " ومنها أيضاً تناصه مع قصة مخاطبة المولى عز وجل لموسي بالوادي المقدس طوي : أخلع عينيك فإنك
في حضرة الأذنين . ومنها تناصه مع قصة عصا موسى عليه السلام في قوله : العيونُ كلها ألقت رغباتها حياتٍ تسعى في صدري وأنا لا أملك أيَّ عصا. ومنها تناصه مع قصة الغار في قوله : أبا بكرٍ غادرني الآن فالعنكبوت والحمامة ينتظران نصيبهما من الوليمة . هكذا يتضح لنا أن شاعرنا إنما ينحت أسطورته الخاصة التي تميزه .
وبعد ... وإذا كان التضاد ؛ وانخراط الأضداد في الوصال هو أس فكر الجرجاني الذي اشتق منه مبدأ شهوة التئام الشمل بين شيئين بينهما بون شاسع - ولا ريب أنه مبدأ ذو ماهية غرامية - وقد طابق فحواه بدقه بين معايير الأدب ومحتويات النفس ؛ حيث يقول الجرجاني :
" وجدت التباعد بين الشيئين كلما اشتد كان إلي النفوس أعجب ؛ وذلك موضع استحسان ومكان استظراف أنك تري الشيئين مثلين متباينين ؛ ومؤتلفين مختلفين " ..
فلنا أن ننظر إلى مدى انخراط هذه الأضداد في الوصال عند شاعنا في مثل
قوله :
شققت للجميع مائي مقيماً بأضلعي ضريحية المرحلة .
وقوله :
أخذاً الجفافَ راحلتي صياماً .
وقوله :
لا الشمس تغسل نورها بع الآن فيَّ .
وقوله :
فليضرب النورُ رأسهَ في الطمي ؛ ربما يرد . إنه نداء النائيات ؛ أو اشتياق الحضور للغياب ؛ والعكس ؛ أو لنقل إنه مبدأ المسافة ..
أليس مبدأ المسافة هذا مبدأ صوفي بامتياز ؛ حيث تؤمن الصوفية بأن الأشياء لا تكابد رهقا مثلما تكابد الفراق والفصال والرغبة الحارة في اللقاء والإندماج .. ومن هذا المبدأ ولّد الجرجاني مبدأ الغرابة أو شهوة الإغراب علي حد قوله ..
لقد راح / محي الدين بن عربي في شرحه لديوان ( ترجمان الأشواق ) خلال كتابه ( زخائر الأعلاق ) إلي المنهج التأويلي الذي من شأنه أن يحيل الظاهر إلي باطن لا يري للوهلة الأولي ؛ ويكشف عن فحوي مخبوء في داخل النص نازعا ً إلي تحليل الجملة ؛ والشذرة التصويرية ؛ والنسيج الأسلوبي ؛ متعاملا ً مع الألفاظ بشكل فقهي أو اشتقاقي لم يعمد إليه من قبله ؛ وربّما من بعده أيضا ً ؛ مثال ذلك تفسيره لكلمة ( الجوي ) بقوله :
" الجوي هو الإنفساح في المحبة ؛ لأنه في الحقيقة مأخوذ من الجو .. وهذا يعني أن الجوي هو الحب المطلق السراح الذي لا تحده حدود ؛ ولا تقيده قيود ؛ وذلك لأن الإنفتاح أو الإطلاق هو السمة الأولي للجو الذي اشتقت منه لفظة الجوي "
.. هكذا وجد الشيخ صلة فقهية أو اشتقاقية بين الجوي والجو ؛ بسبب هذه الصلة صارت لفظة الجوي حاملة لمحمول عاطفي عظيم ؛ ونازع إنساني مطلق .. لقد أكد الصوفيون دائما أن الرؤيا غوص في نقطة العقل ؛ ورسخوا دائما لحرية الإشتياق ؛ وأرسو دائما
مبدأ العمق ؛ وتلاقوا دائما مع الجرجاني في توتره من أجل المسافة ؛ والدة الغرابة والدهشة والحنين .. وبعد ... فإذا كانت علة الكتابة الفنية بوجه عام هي رغبة النفس في أن تضع محتوياتها أمامها لتنظر إلي صورة ذاتها كما تنظر في مرآة ؛ فإن ذلك هو ما حاوله شاعرنا وأخاله نجح فتميز ولا نملك إلاَّ إن نبارك خطاه ونتمنى له المزيد من التوفيق والنجاح والله ولي التوفيق
محمود عبد الصمد زكريا
عضو اتحاد كتاب مصر الإسكندرية
في 31 مايو 2013 م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق