- Unknown
- 10:20 ص
- الشاعر عمرو الشيخ ، دراسات نقدية ، دراسات نقدية عني
- لاتوجد تعليقات
الجمالية المجازية فى ديوان "اساطير الآخِرين" لـ"عمرو الشيخ"
دكتور أمجد ريان
لايريد الشاعر أن يستنسخ الأساطير ، ولا أن يعيدها ، بل يريد أن يخلق أسطورته الجديدة ، وكما كان للأُول أساطيرهم فللآخِرين أساطيرهم ، وللشاعر أسطورته الخاصة التى يبتدعها ابتداعاً فى هذا الديوان ، وهذه المعانى شعرنا بها بداية من عنوان الديوان نفسه (أساطير الآخِرين) بكسر الخاء .
الأدوات القديمة فى تاريخ البشرية لاتبلى ، ولكنها تستمر فى كل العصور التالية ، وإن كان هدفها سيتغير بالتدريج ، شيئاً فشيئاً ، حتى يتغير كلية ، وإذا كان القدماء يستخدمون الأسطورة لأنها تعبر عن منطق حياتهم وأحلامهم مجسدة أقصى ماتملك قدراتهم الفكرية والجمالية ، فإن لمبدعين والشعراء الجدد يستخدمونها لإثراء إبداعهم ، وتأكيد اتصالهم بخصوصية حياتهم واتصالها بتراثنا على امتداده ، ويستطيع الكاتب اليوم أن يعبر من خلال الأسطورة عن الواقع الغامض الذى يعيشه ، أو يقرب مضمونها من الواقع الاجتماعى الميحيط به ، ليبدع خصوصيته ونكهة كتابته التى تميزه بين الكتاب .
وكما رأى "ليفى شتراوس" فأن البنية فى النص الأدبى الجديد تكتشف عن الروح الملحمة والأسطورية للبرجوازية اليوم . والمبدعون يسعون باستمرار عقد هذه المصالحة القوية بين الأسطورة باعتبارها دنيا لازمنية ، وبين الإبداع باعتباره واقعاً جمالياً يطرحه الزمن التاريخى ، والأسطورة دائماً تكوّن منظومة متدرجة متنوعة المداخل ، تتضمن تحولات عديدة ، وتبدلات وتداخلات وتركيبات ، ولكنها مهما تعمقت ، ستشبه فى النهاية ، بمجموعها ما يدور فى الحياة الواقعية .
إن انهيار التكوين الاجتماعى يشجع على ابتداع الأسطورة الجمالية الإبداعية كما لو كان تعويضاً عن الزمن الضائع ، والقيم التى اختفت . والكتابة الأسطورية تعيدنا إلى
تساؤل "لوكاتش" الخطير : هل المجتمع والوجود قضية واقعية أم أنهما مجرد تلفيقات فى الأصل ؟ والكتابة التى تخلق الأسطورة الجديدة ينبغى أن تتميز بالجرأة والقدرة على ابتداع عناصر تتبادل الحوار والتفاعل داخل منظومة متحررة ، وتعبر فى النهاية عن رغبة الشاعر فى امتلاك أكبر قدر ممكن من الحرية .
وإضافة للمعنى الأسطورى فى هذا الديوان ، فإن الشاعر يحب كثيراً أن يستخدم المعنى الدينى ، بداية من النص المثبت على الغلاف الخلفى لديوان ، ليؤكد أنه يريد أن يتصل بالتراث وباخصوصية المحلية ، وأنه لايتحرر ولاينطلق للأعالى إلا بعد أن يغمس قدميه فى أرض الواقع الفعلى ، حتى لايتحول إلى فقاعة منفلتة ، تطير وتنفجر فى الفضاء بعيداً عن أصولها . والتراث الدينى يصنع هذه الرابطة المباشرة والفورية مع المتلقى لأن المصرى متدين ، منذ بدايات التاريخ وقبل مجىء المسيحية والإسلام .
ويمكن أن نتابع هذا الحس الدينى فى الإهداء أيضاً : (إلى أميرة الجنة /من لا عين رأتْ / ولا أذن سمعتْ / ولا خطرتْ على قلب شاعر "إنما أشكو بثـِّي وحزني إلى الله" ، وأميرة الجنة التى يقصدها ، هى ولا شك من الحور العين ، وعبارات الإهداء كلها مقتبسة من آيات القرآن الكريم . ثم نتابع المقطع الأول فى القصيدة الأولى المسماة باسم الديوان لنتعرف على المعانى الدينية والصوفية : (أساطير الآخِرين - النهر القادم من الجنة صوب الشاعر الوليمة) : ( تقول أسطورتك : إن الكوثر استقر فى الجنة ، / واصطفى من مائه ما يليق بالوضوء . . وضوء الأميرة حين ارتفع الأذان فى قلبك دون الحين ودون الـمـكان .. فما إن حطت عيناك اليمامتان على الماء ، حتى تصافى وارتقى ، وما إن لمسـَتـْه راحتاك البراق حتى استدام نورانيًا فلما تجـلَّى له جبينك تطيَّب بعبير له عبق الرحمة والمغفرة ، ثم لاحق الماءُ كعبيك أينما شدَوَا خفيفين فكان نهرك) .
وهنا ستحيلنا الكلمات إلى المعنى القرآنى أو الإسلامى ، أو إلى اللفظ القرآنى مباشرة : (الكوثر - الجنة - واصطفى - الوضوء - ارتفع الأذان - الماء - البراق - الاستدامة النورانية - التجـلَّى الرحمة والمغفرة ، النهر) كما يستفيد الشاعر من المعنى الدينى بلا شك ، عندما يبدع مثل هذه الجملة : (ومرَّ قدر الانتظار ؛ كي يسقيَ القلبَ الخربَ شربةً لن يحزن بعدها أبداً) .
ويتعمد الشاعر أن يصنع هذا الزخم الأسطورى من مواد حكائية أسطورية تقليدية ، ومواد حكائية تبتكر أساطير جديدة ، وقد يمزج بين الجانبين فى بعض
العبارات : (إن شاعرًا اتسع قلبه ، واتسع ، واتسع فأقام للمارين سبلا ، وخياما ، وقرى ، وحقولا ... يحنو عليهم كلما استبد بهم الظمأ فأبوا إلا أن يسرقوه ، ينهشوا لحم أطفال القصائد التي يزرعها في عينيه خصيصا لهم ..) ، (لكنما الفتاة أمّنت النور خلف رموشها فاستحال خيوطا ..... / الفتاة خبأت في قلبها نبضا يحرس حُبًّا ، حارت الجنيات أربع سنوات في البحث عنه لتـَبقى لعنتها أبدية ... الفتاة وشوشت القصائد بالدموع ، والدموع ما انفرطت ، ضمها خيط زفرة الحب فصارت عقدا لن ينقذ حباتِه من الانفراط إلا لؤلؤة أميرة نهر الجنة ...) وهكذا يستمر التوليد الأسطورى على امتداد معظم صفحات الديوان.
وبداية من قصيدة (السر) ينتهج الشاعر أسلوباً شعرياً مختلفاً هو أسلوب الشعر الحر التفعيلى ، حيث تختلف أطوال السطور ، من سطر إلى سطر حسب الدفقة الشعورية ، بدلاً من استمرار السطور بعرض الصفحة ، وحيث لا نقرأ هذا السرد الأسطورى المطرد الذى يتوالد بعضه من بعضه ، وإن لم يختف الحس الأسطورى ، لأنه شرط هذه الكتابة ، وقانونها الأول الذى يتحمس له شاعرنا ، وقصيدة (السر) نفسها ، تبدأ بالمرأة ، ولن نرهق أنفسنا كثيراً حتى نكتشف أنها امرأة أسطورية مئة بالمئة :
امرأة زخرفت الدنيا
وأحالت كل وعوراتي ...
لسهولٍ تحملني حانيةً ناحية الجنة
تابت كل ذنوبي حين أهلّتْ
وانسابت عيناها نولاً ..
فانغزلت كل كوابيس العمرِ الجاثمِ أحلامًا ،
أشعارًا ،
صوفًا يحتضن القلبَ المتجمد ..
بقصائد نورٍ ..
تزرع أقمارًا تطرد كلَّ جواسيس العتماتِ .. – ص32
فنلاحظ أن المرأة هنا ليست امرأة حية من لحم ودم ، ولكنها امرأة أسطورية خارقة القدرات ، يمكن أن تنساب عيناها نولاً ، وهى قادرة على أن تغزل كوابيس
العمر بقصائد من النور ، ونلاحظ أن الحلم هو منطق الكتابة ، ومنطق الرؤيا التى تسعى للجنة ولعبق الفردوس ، ويواصل المقطع التالى البحث عن الجمال ، والحسن والحنان ، والمسألة فى النهاية تعبر بالتأكيد عن أزمة يعيشها الإنسان حينما لايستطيع أن يلبى حاجاته الأساسية ، ولايستطيع أن يتحقق كآدمى له حقوق مشروعة ، فيلجأ للحلم وللتمنى والخيال :
يتدفأ قلبي بجمالٍ
يحدو دقات يحرسها بحنانٍ
ببريقِ عيونٍ صارت محرابا
والحسنُ حياءً ،
عرفانا ..
يتعبد – ص33
ولما كان الشاعر يبحث عن الجمال ، بكل صنوفه ، فسوف يظل يبحث عن المرأة الأسطورية ، ويظل يرتبط بها ، لأنها هى الملاذ الذى سيشبع حاجاته الجمالية التى تمثل بديلاً للحاجات الفعلية المعطلة فى حياتنا الواقعية ، وفى هذه الأبيات كل شىء يتوقف ، فيما عدا الحصول على المرأة :
خضع الوقتُ ،
توقف ..
عند قصيدٍ تحمل أنثى .. – ص34
وتصبح المرأة كرمز للجمال هى كل شىء فى الحياة تتوقف أمامها كل الأزمنة وكل الأمكنة :
فمتى حلَّتْ ...
كان زمانٌ ...
أين أطلَّت ..
كان مكانٌ – ص 35
هى المرأة الملاذ يقول لها (أنتظرك دوماً – ص42) ، لأنها هى التى سيسعفه
جمالها ، وهى التى ستحميه وستخفيه أو تتبادل معه الإخفاء ، لأن هذا الإخفاء سيبعده عن شرور الواقع ، وأزماته الخانقة :
امرأةٌ
خبأها القلبُ فأخفتني .. – ص36
وليست هى قصيدة واحدة تحت عنوان (السر) ، بل هناك ثلاث قصائد بالعنوان نفسه ، علاوة على أن كلمة السر دخلت كمضاف إليه فى عناوين عدد كبير من القصائد : (انتظار السر - أغنية السر - راهبة السر - صلاة السر) وهناك قصائد أخرى تدخل كلمة (السر) فى عناوينها : (الجنة تنتظر السر - السر يسود - من علامات السر) ، والشاعر يظل يكرر كلمة (السر) حتى يوحى لنا بأن الشعر يمتلك السر الدفين للوجود والحب ، ولمعنى الحياة بشكل عام . وستبقى القصيدة هى القادرة على تحليل النفس البشرية والكشف عن أسرارها ، وعلى البحث عن علاقتها بالوجود وبالكون ، وهى القادرة أيضاً على أن تطلق الذهن من وراء الظواهر القريبة حتى يصل إلى المعانى البعيدة المستحيلة.
والقصيدة بكل استعاراتها ، ومجازاتها ستعين الشاعر على تحمل حالة الاغتراب ، والضياع خلف الأسوار بعيداً عن الوجه الحبيب ، وينتهى المقطع التالى بمعنىً مستفيدٍ من معانى القرآن الكريم ، يحاول من خلاله الشاعر أن يبتعد عن الوجود كله ، ليبقى مع المرأة الجميلة الأسطورية التى ستعوضه عن كل ما افتقده فى هذه الحياة القاسية :
هل تراه العطرُ عطرٌ ؟
أم تراه النورُ نورٌ ؟
واغترابٌ
ذاك كنزٌ
ذاك سورٌ تلو سورٍ
أيها الوجهُ البعيدُ ...
قلت ماذا ...... ؟!
قل هو السر فقط
فلتحرسي القلبَ حثيثا
غلّقي الأبواب إنّي
قلت للأحلام ....
هيت لك – ص 47
وحيث تظل المرأة - كما اقترحت هذه الدراسة - رمزاً للجمال المطلق الذى لايمكن أن يصل إليه أى معنى آخر ، وهذا مانطالعه فى الديوان بشكل عام ، وفى قصيدة (وحدك) بشكل خاص :
لا تنتظري ..
موسيقى ،
أو شعرًا ،
أو لوحاتٍ ،
لن تنصفك أيُّ فنونٍ
وحدك أنت الفنُّ الثامن – ص49
وفى تنوع آخر من تنويعات هذا الديوان يطرح لنا الشاعر نصوصًا عمودية خليلية ، ولكن ستظل الأسطورة فى كل الأحوال تهيمن على أجواء النصوص ، وستبقى كتابات هذا الشاعر داخل هذا المنطق الأسطورى فى كافة المدارس الشعرية والطرائق الموسيقية التى استخدمتها : بين الكتابة النثرية ، فى القسم الأول من الديوان ، وكتابة الشعر الحر فى معظم الديوان ، وكتابة الشكل التقليدى فى مثل هذا النص الذى جاء فى بحر المتدارك ذى التفاعيل السريعة المتتالية فى إيقاعها ، لينشىء هذه الأنغام المحببة ، وليثبت قدراته كشاعر ماهر استخدام كافة البحور ، ولكن هدفه الكبير ليس إتقان البحور والقوالب الموسيقية الشكلية ، بل إيصال هذه الشحنة الجمالية المجازية التى تفيض بالشفافية ، وتنتقل لنا من خلال هذه الرشاقة اللغوية ، ومن خلال قوة النبض فى مختلف نصوص ، والشاعر دائمًا يضمِّن نصوصه هذه الروح الشعرية التى تسعى لأن تسحرنا ، ويطرح هذا المعنى التركيبى الذى تتداخل فى تكوينه الأبعاد التراجيدية والصوفية ، والحماسة المجازية لديه تولد كل هذه الدلالات المعبرة عن أجواء الذات فى محاور متعددة تقدم انعكاساتها بين الحلم والواقع :
بالشعرِ بهاك يحاصرني وأنـا بحصــــاره ذا أرضـى
عاهدت القلبَ يناصرني حمــــــدا لله بأن نـقضــا
فنظرت سماءً تسـعفني بدعاء يشـــــــــــــــــــتمـل الغرضـا
أتراه البُرْء سيــعدني أم أني أســــــــتـجدي العَـرَضَا
أسعى للقمر يراوغـني أرنوه وقد نـزل الأرضـا
يمليني الشعر ينافسـني من فينا في حسنك قرضـا
الشعر تـراه يراوغني يأتيــــــني من حيث افترضـا
يتودد منك يُغارِمُنِــي يوقنُ أنى لن اعتــرضا
من سن الشعريحاجِجْني بهواك قد صـار الفرضا
الحبٌّ حـياه يوضئنـي وحياءً سأظـل أوضَّــا
يا عمرًا كان يمارسـني العقد المبــرمُ قد فُضَّا
يا عمر آتٍ يؤنسـني ما أعدلَ لو كان العِـوضا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق