- Unknown
- 11:52 ص
- الشاعر عمرو الشيخ ، بهجت صميدة ، دراسات نقدية ، دراسات نقدية بقلمي
- لاتوجد تعليقات
الشعر إرادة حياة .. دراسة في ديوان (العصافير ترفض موتي)
للشاعر / بهجت صميدة
3ـ الفكر
ليس الفكر مجرد إضافة جادة للشعر ، ولا لمسة عمق للصورة ، ولا دلالة على ثقافة الشاعر الفكر هو ذلك العمق الإنساني النابع من الوعي بالتجارب والثقافة (المعاشة والمقروءة) في صنع ما يشبه الضمير لتحليل ما يقع قبل وحول وأمام الإنسان واستشراف ما سيحدث ، وتقييم أفعاله الذاتية المفعولة أو التي ستفعل .
الفكر هو النوتة الموسيقية التي تضمن أن يعزف جميع العازفين على اختلاف شخصياتهم وآلاتهم نفس اللحن ..
الفكر هو ذلك الذي يكمن داخل الذات الشاعرة على اختلاف مشاعرها العمرية والمزاجية ، وعلى اختلاف الأيدولوجيات التي يتبناها العقل هذا الفكر هو الذي يجعل كل قصائد الشاعر بل كل سطوره – على اختلاف مستواها الفني تبعا للخبرة – تعزف لحنا واحدا أو قل ألحانا متقاربة ، ولذلك ليس من قبيل امتداح شاعر أو كاتب أو عالم أن نصف فكره بالتغير ربما نصفه
بالتطور والتنامي وتنوع الأفكار إنما التغير فلا ، مثلا لاعب كرة القدم سيظل لاعب كرة قدم داخل نفس المستطيل بنفس القوانين لكن مستواه الفني سيتطور مستواه البدني سيتغير إنما لعبته ستظل كما هي ..
من هنا كان الفكر – لمن امتلكه وهم قلة – خلاصة عقل يحوي شتى المعارف لكن تلك الخلاصة تحكم أسلوب صاحبها في تقييم وإقامة الحياة بكل ما فيها وتحكم توجهات الشاعر الواعي وشاعرنا (بهجت صميدة) واسع الثقافة ومتنوعها عميق الايدولوجيا في هدوء لا صخب ، مؤمن إيمانا كامل إنسانيا وشعريا بحرية الفكر وحرية الاعتقاد ، مؤمن بحرية الحرية .
وفكره آمن أن الحياة بمعناها المادي التقليدي تافهة لكنه لا يرفض أن تعاش ، ولا يستنكر من عاشوها بل يرفض أن نتنازل في عيشها ... وعلينا أن نبحث دائما عن الخلاص والخلاص بالنسبة لشاعرنا كان في شعره فقط وهذا ما ستجده في كل قصائد الديوان بل دواوين بهجت كلها .
مبدئيا هو يرفض التورط في الحياة بشروطها هي فيقول في (إشارات) : صــــــــــــــــــ 5
الشمس أغرتني
فتحت عيني كي أرى النور
فأعمتني
فالشمس إحدى أقوى رموز الحياة في الموروث الإنساني تراود الشاعر عن نفسه فأعمته .. هذا العمى انتصار لإرادة الشعر لدى (بهجت) كي لا يبصر الوجود ويتفرغ لعمق البصيرة فالرفض الوجودي متبادل لديه بينه وبين الوجود .
فيقول في نفس النص : صــــــــــــــــــ6
باعني الموج
هل يشتريني الزبد ؟!
ثم يأتي نص (حي) مؤكدا انتصار الشاعر بالعدمية الموازية للزهد لدى الزهاد ، فعدمية (بهجت) ليست هزيمة أو يأس لا بل هي هزيمة من عاشوا وتورطوا ، لقد فهم شاعرنا الحياة فتعفف عنها وتركها دون خسارة .. هي خسارة من عاشوها خاضعين لشروطها فيقول :
حي كالميت
يعيش على جنبات النهر
ولا يبتل
يجالس كل الزرع
ويأكل – مثل الزرع – سواد الأرض
ولا يترعرع
بل يتكوم أسفل صفات يتراقص والريح
هذا التكوم ليس إلا انزواءً بعيدا عن ونس الوجود ، انزواء بمذاق الصعود والترفع ، يقول أيضا :
ويعلن أن المطر – وإن كان غزيرا جدا –
لا يكفي لإزالة رين غطى القلب سنين
ألبس روحي .... أخلع جسدي
ألبس جسدي .... أخلع روحي
أخلع ..
أخلع ..
هنا يوازن (بهجت) بين حياتهم المفروضة والمرفوضة التي لا تكفي شاعرنا استغناءً لا افتقارًا ، أما عن محاولاته للبس والخلع فليست احتياجا ولا يأسا بل سخرية فها هو يحاول مثلهم التعايش فلا يفلح ، لا يسعه إلا فضاء شعري رحب بعدما ضاقت عليه الأرض بما استبدت .
ليس ذلك فكرا عدميا بل هي أزمة الاغتراب اغتراب المثال الكامل عن الأقزام ..
آه من غربة روح
تبحث عن وطن يخرج من قلب الطين صــــــ9
الاغتراب عن الوجود لا ينهيه إلا الوصول ولكنه ليس الوصول إلى الموت البيولوجي ، بل الموت عن خطايا ودنايا الوجود فيقول :
وطيري نحو بئر حياة صــــــ 11 ، 12
ليس يقربه سوى الموتى / الطيور
.. ..
واغتسلي بماء البئر
إني الآن ميت طائر
نعم هو يبحث عن الوجود الحقيقي والحرية الكاملة وليس أكثر حرية من الموتى فهم لا يفتقرون إلى شيء هم فقط من يصعدون إلى السماء .
يستمر هذا الفكر في الاكتمال لدى القارئ وهو يتابع واحدا من أروع نصوص الديوان المبدع ..
مساء الدخان صــــــــــــــــــــ13
فيقدم الحبيبة ببحرها الخاص الذي يفيض في عالم الشاعر الافتراضي ثم يدعوها للاستعداد إلى الرحيل حيث البقاء الحقيقي :
صلي على أيامنا صـــــ 14
واستشفعي باليل
إذ يغشاك مملكة من العظم
المسبح باسم عزرائيل
والتمس فيوضات النهار
هذا الفكر يظل متصاعدا نحو العدمية المطلقة فيقول في (مقطع من قصيدة الموت) صــــــــــــــــــ 18 :
بدايات الهوى موت
نهايات الهوى موت
ويقول : أنت من أخفت يمينك
ما جنته على شمالك
ليس هذا إلا تحررا بالشعر من أزمات الوجود حتى ولو كان الوجود هو ذلك الجسد المحاصر لروح الشاعر فيقول :
واصطفاك الماء
يزرع فيك سنبلة من الطهر
المحاصر باختمارات الجسد
هذا التحرر يقارب الذروة حين يقول في (العصافير لا تمنح الظالمين الهوى) :
لعل الجراد – مع الزرع – يأكل كل الصحارى
ولا يتبقى سواها النجوم
في سخرية – غير مضحكة – بل داعية لتأمل حقيقة وجودك وهو الاستغناء عن الحياة لا الاستقواء بها فهي ممر لا مقر .
ويرفض (بهجت) كل أشكال التصالح مع الحياة والخضوع لها لقد فهمها فترفع عنها يقول في (العصافير ترفض موتي) :
وجوها أرى ............. ؟! صــ 28 ، 29
أم أرى أقنعة
تحاول أن تتطهر من عفن الصيف
حين تجيء إليها الجسوم
التي كفنت بالسواد ضمائرها
واستراحت على شاطئ الوهم ..
ويقول في ذات النص :
ترى – رغم بعد المسافة - صـــــ 30
في الأرض موتى يسيرون
أكفانهم من جلود
مقابرهم فارهة
تفوح روائحهم في البلاد
ليست حياة هؤلاء إلا موت ، أو طريق مفتوح لموت ، أما الحياة فقد وعاها شاعرنا في شعره ومنحه الإخلاص ، فمنحه الشعر الخلود .
هذا الفكر الرافض للحياة في شكلها المنغمس في الخضوع للوجود ليس من باب الفشل بل الحياة تقبل على شاعرنا فيأبى :
ومازالت الأرض تلقمني ثديها
من عصير الطين
وترفض أي فطام
(صبر جميل 39)
هذا الفكر من مظاهره في الحياة وفي الإبداع العزف منفردا ، والنفور من ممارسات القطعان أيا كانت ومهما كانت فيقول في (مقاطع كبيرة) :
أنا منذ عشرين قرنا ولدت
التقمت من الأرض ثديا
وثديا من الشمس
واشتقت للخبز قبل الفطام
وكنت الوحيد الذي رفض التمر
في أسرة من نخيل
هنا يتكئ الفكر على الرمز وهو ما لم يلجأ إليه شاعرنا كثيرا ، فلا شك أن التمر رمزٌ للثقافة الموروثة المتقولبة ، والأسرة البشرية (النخيل) اعتادت عليه والشاعر دائما رافض لأي قالب ،
يتكرر الرمز ثانية في استخدام (السمك) كرمز لكل المحرومين الثائرين المعرضين للصيد فيقول في (معاهدة) :
صار نهاري قبلة كل البحور
يجيئ له سمك
فر من ذكريات القبور
هذا الفكر العميق في شخص وديوان شاعرنا يجعله يقبل تحت الضغوط لا أن نقول الحياة ولا التعايش ، بل قل التظاهر بالحياة فيقول في (درس جديد) : صــــــــــــــــــــ 44
فينهض من نعشه الميت
يهرب نحو الحياة
التي في وجوه البنات
وفي الشنط المدرسية
من يشرح – الآن – درس النصوص ؟!
ومن سوف يشرح درس الممات ؟!
فالتظاهر بالحياة ليس اختيارا بل قل اضطرارا لا يلبث أن يتقوى الشاعر عليه بإرادة الموت والشعر فيقول في معاهدة : 46
لفظت نهاري على شاطئ الموت
كي يتسرب نحو دماء الحياة
هذا الفكر الذي أذابه بكل هيمنة العاطفة وصدق الشعرية لم يخل من لحظات إمكانية الحلم وليس الحلم فيقول في (معاهدة) :
وقل للعصافير :
إنا أعدنا الدماء التي بيننا واحتوانا الزمان
وصرنا كطفلين نحلم في كل وقت
ولا يحتوينا المكان
كتبنا – برغم اختلاف الأماني –
عهد الأمان
ومن قال إن العهود تكتب لتنفذ ؟! أم ترى كفاه شرف المحاولة ؟! شرف الحلم!
هذا الحلم يبدو أكثر وضوحا في (حصار الورد) 67
فيقول :
أنا طائر
تشتكيني الحياة
فألقي إليها بريش
وأسرع أطلب منها النجاة
بألف جناح أطير
إلى النور دون انتظار
فلا فقد ريش سيمنعني من الطيران
ولا الظلمات ستمنعني الحلم ..
أحلمُ
أحلمُ
أحلمُ
حتى أصدق حلمي ..
يكفي شاعرنا شرفان : شرف الحلم وشرف تصديق الحلم في اللجوء الكامل إلى دولة شعره .
أي حلم يا (بهجت) وأن ترى أن الركون إلى الظل يستوجب العلاج فليس (بهجت) ممن يركنون إلى الظل / الحياة .
يقول في (إصابة) : 53
أصبت بضربة ظل
تساقط فيها دمي كالثلوج
هذا الفكر يتبلور في انتفاء أي رغبة ذاتية في البقاء في واحد من أجمل مقاطع الديوان فيقول في (إصابة) : 55
بعكاز من سوف أمشي ؟!
وكل المسافات أبعد مما تخيلت
لا العقل يزرعني في النهار
ولا القلب يحصدني في المساء
أراني بعيدًا
فأحسب أني رحلت
وأبصر ظلي
فأعلم أني بقيت
ليس إلا الظل فقط هو ما يربط (بهجت) بالحياة ، ظلال الأشياء لا حقائقها في عملية انفصام عن الواقع واللجوء إلى الشعر.
ومع اقتراب الديوان من نهايته يتبدى لنا أن العالم الشعري الذي ابتدعه الشاعر لنفسه ليس رد فعل للحياة ، ولا موازيا لها ، ولا بديلا بل هو عالم نفخ فيه من شعره فقط فيقول في (عملية زرع إنسان) : 61
وأرى أعضائي تتطاير
تصعد نحو سماء صافية ..
تتعانق ونجوم الكون
وطبيب يضحك
يعلن أن العملية قد نجحت ..
أي مكر ومراوغة في تلك النكرة البارعة (سماء) ؟! هذه النكرة كافية أن تعكس عمقا فكريا ثريا , وأيدولوجيا كامنة تجاه أهم وأحرج أسئلة الوجود . لكن ليس الفكر ما يصنع الشعر ، أو قل ليس الفكر العظيم ما يصنع الشعر العظيم .. لا عظيم في شعر بهجت إلا شعره وبهجت نفسه أما الفكر ذاته فهو الرقيب والمحرك المهيمن على أدوات بهجت الشعرية هو المايسترو الذي تنضبط كل الآلات بنظرة رقيقة منه مهما كان الفكر جافا صاخبا صعبا فقد قال للغة وعاطفة (بهجت صميدة) هيت لك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق