- Unknown
- 11:59 ص
- الشاعر عمرو الشيخ ، بهجت صميدة ، دراسات نقدية ، دراسات نقدية بقلمي ، ديوان العصافير ترفض موتي
- لاتوجد تعليقات
الشعر إرادة حياة .. دراسة في ديوان (العصافير ترفض موتي)
للشاعر / بهجت صميدة
4ـ الصورة
الشيطان يكمن في التفاصيل .. هكذا قالوا ، لكن في الشعر الحقيقي النعيم في التفاصيل ، والشعر العظيم أعظم مكوناته على الإطلاق الصورة المدهشة وليدة الخيال الخلاق
ولا أعني هنا مجرد الصورة الجزئية التي يستطيع الذهن الذكي والمثقف إنتاجها
ولا الخيال الكلي الملغز المستهدف للغموض من باب التعالى على النص والقارئ
وإنما الصورة التي أعنيها هي تلك الصور الجزئية التي لا تكتب لها الحياة إلا مجتمعة في خيال كلي حجته الوحيدة الجمال ، وشهادة جودته الدهشة ..
سواء كان الخيال / المجاز رمزيا مشهديا لغويا أو ذهنيا .. أو .. أو ..
كلها مصطلحات أنتجها نقاد ولم يعترف بأبوتها أي شاعر حقيقي المهم أن يتحقق للخيال المتعة والدهشة والجدة وأن يعمق المعرفة الشعرية والإنسانية على حد سواء ، فالخيال العظيم غاية ووسيلة
هذا النوع من الخيال لن تبذل جهدا في تتبعه في ديوان (العصافير ترفض موتي) الذي تزداد القيمة والمتعة كلما تأملت تفاصيل الخيال دون عزلها عن الديوان أو القصائد
بداية تلك الصور المدهشة (العصافير ترفض موتي) وما فيها من إيحاءات أشبه بالمتتابعة الهندسة اللانهائية الدلالات
فهناك عدة مستويات : الأول استعاري يجعل العصافير وكأنها أشخاص ترفض موت الشاعر ، مع جعل الموت شيئا قابلا للرفض وفق المنطق الشعري المغاير بالطبع للمنطق الحياتي وذلك من أهم قيم الشعر .
أو استعاري من جهة أخرى فلربما يشبه الشاعر قصائده – المثل العليا – لحظات الصدق – أصحابه – أطفاله – أحلامه ... بعصافير رقيقة ترفض موته تلك الصورة تحدث المفارقة ويكفي السؤال
.. هل تقوى العصافير على ذلك الفعل المنسوب لها ؟!
قطعا لا .. ومن هنا يراوغنا الشاعر تراها نجحت العصافير ؟ أم لا ؟ وهذا دو الخيال المنتج للمعرفة والمحرض على التتبع
فإذا دخلنا إلى الديوان سأكتفي ببعض النماذج المبهرة الدالة على أصالة وخصوصية شاعرنا
يقول في (مقطع من قصيدة الموت) صـــــــ 15:
الموت ماء
ليس في كوب الحياة سوى رؤاه
يضمني قبر بعرض سماء ذاكرتي
فأمشي طالبا نفسي
فتنكرني
هذه السطور القليلة تحمل صورا لا أبالغ لو وصفتها بالفذة تحقق ما عرضته في الجزء النظري – بخصوص التصوير – أي دهشة من ذلك التشبيه النادر – غير المسبوق – (الموت ماء) وأي مفارقة بين الموت / العدم / الفناء والماء / الحياة / النماء .. مما ينتج معه إحساسا بكراهة الحياة وعمقها وفكر العدم
هذا الموت / الماء لا يحوي كوب الحياة غيره ، ومتى بلغت نهاية الكوب فأنت – فعليا – قد مت .
وتصبح تفصيلة من تفاصيل الحياة عبارة عن طوبة في صنع قبر باتساع ذاكرة الشاعر / تجاربه الحزينة تلك العدمية يؤكدها بكل صور النص ذاته (مقطع من قصيدة الموت) فيقول :
بدايات الهوى موت
نهايات الهوى موت
فيا من يشرب امرأة من الوهم
استلم قبرا من الذكرى
وحنط جثة الأسى الجريح
فعقارب الأحلام
أوقفها انتماء الليل للتاريخ
كسرها اختفاء الريش
من كل العصافير ..
البداية تشبيه يبدو تقليديا ، لكن هيهات ؛ فالموت عامل مشترك ، والحب اختراع من الشعراء لا يتجاوز نوعا من الخمر ليست الإفاقة من تأثيره إلا وسط حصار من الذكريات على هيئة قبر تتم فيه عملية تحنيط للأمس الجريح ، وهنا المفارقة فالتحنيط كما هو متعارف عليه للموتى ، لكن الجرح فقط لدى الطبيعة المرهفة يساوي الموت يساوي توقف الأحلام عن الحياة توازيا مع اختفاء الريش من العصافير إيحاءً بأن القدرة على الطيران انتهت ..
هنا سيتنبه القارئ أن الشاعر خدعه فكل تلك العدمية لم تستطع أن تقلل من المتعة الجمالية المدهشة (فبهجت) واحد من أولئك الشعراء
العظام الذين يدركون أن الشعر فن وأن الفن خلق للجمال .
أيضا يجيد (بهجت) في استخدام الخيال كجواز مرور للتعامل مع التاريخ يقول في (العصافير ترفض موتي) :
والريح تنفخ فيَّ النار
تحرق جثة هابيل
ترفض أن تدفنه
الصورة تمكن (بهجت) من خلق جغرافيا جديدة ، يقول في قصيدة (مقاطع كبيرة) :
أبحرت فيَّ
فلم أجد لي مرفأ
كل البلاد الداخلية أعلنت رفضي
وردت لي جوازي
يجعل من نفسه عالما ورغم اتساعه لا يجد لنفسه في نفسه مكانا وهنا يتعاظم دور الخيال في تصوير تلك الغربة وواقعا فإن الجغرافيا والتاريخ وجهان لعملة واحدة لذلك يمتطي (بهجت) خياله المنطلق في تصوير تاريخه الخاص أو تاريخ البشر فيقول في نفس النص :
أنا منذ عشرين قرنا ولدت
التقمت من الأرض ثديا
وثديا من الشمس
واشتقت للخبز قبل الفطام
وكنت الوحيد الذي رفض التمر
في أسرة من نخيل ..
صورة كلية تحمل مشهدا دالا في بعده الأول على اغتراب الإنسان عموما وفي بعده الثاني على اغتراب شاعرنا ، وفي بعده الثالث دلالات على محاولات شاعرنا التعايش لكنها الذات الشاعرة تأبى إلا العزف المنفرد عن الحافظين .
كذلك مكن الخيال (بهجت) من صنع أساطيره الخاصة ومنها مثلا ما قاله في (للبحر رأي آخر) .. صــــــــــــــ 62 :
يجيئون مثل احتلال المساء لقلبي
بجيش من الخيل يبدو نبيلا
لكل جواد ثلاثون رأسا
بمليون عين
تُحَدِّقُ في كل صوب
فلا تبصر البحر إلا قليلا
تظن الخيول المياه طريقا
فتلقي أعنة الرؤوس إليها
فتسرع للبحر
تسقط منها الرؤوس
ولا يتبقى سوى جسدٍ
يمطيه الهواء
ليصعد نحو السماء
ويصبح لا شيء غير الفراغ دليلا
يصنع (بهجت) عالمه الأسطوري المضفر من صور جزئية فريدة مثل (احتلال المساء لقلب / جيش من الخيل يبدو نبيلا / لكل جواد ثلاثون رأسًا / بمليون عينٍ / تظن الخيول المياه طريقا / تسقط منها الرؤوس / ....
بنى (بهجت) بالصور الجزئية المتتامة في صورة كلية عالما أسطوريا متكاملا بعناصره المثيرة والمدهشة ، صانعا رموزه الخاصة المحرضة على التأويل فتتعدد فضاءات النص ومن ثم تتحقق المعرفتان : الشعرية والإنسانية ومن قبلهما المتعة الجمالية .
المتعة تصبح أكثر نورانية شفافية صوفية في نص (حصار الورد) ولا أقصد بالصوفية المذهب إنما المنهج – إن جاز التعبير – فجاءت صور (بهجت) في هذا النص دالة على توحده مع النص والوجود بعناصره (الرمال / الشمس / جبل / الأرض / النجوم / النور / الكهوف ....
صنع هذه الصور برهافة نادرة (النجوم دموع يساقطها الليل) (تخرج من رحم الرمل عصفورة ، يحمل الوردَ منقارها)
ثم يزداد (بهجت) توحدا مع نصه والوجود حتى تكاد لا تميز أحدهم عن الآخر ، فيقول :
يحاصرني الورد من كل صوب
ويمزجني بروائحه
أتفاعل
رائحة الطين يغلبها الورد
تشهد هذا التفاعلَ كل النجوم
فتضحك
ثم تزداد الصورة عذوبة ورقة وتصوفا حين يقول :
أشعر أن السماء اصطفتني
بعصفورة تخرج الموت مني
وتبعثني بقصائد حب
إلى الكافرين بنور الحياة ..
لربما تبدو تلك الصور مخالفة لمقصد الديوان إلا أنه يعكس أن ذلك ليس إلا حلما شفافا ومحاولة نعم فقط محاولة للتوحيد بين الذات والقصيدة والوجود
فيقول في آخر ذلك النص المدهش :
أنا كالسحاب ..
امتلأت بماء الحياة
اختنقت بماء الحياة
اصطدمت بكل الجبال
ولم تسقط دموعي – بعد –
لتروي حقل الجمال
هذا هو بهجت وهذا شعره وهذا خياله لا هم لهم إلا جمال الشعرية مهما كان الألم والأزمات الوجودية والتأسيس الأيدولوجي والعمق الفكري
بذلك أنتهي أن شاعرنا وإن رفض الانغماس في الوجود وخلق عالما موازيا من الشعر فإنه كرس في هذا العالم لتفاصيل من الجمال تتجاور لتتفاعل وتتفجر دلالاتها في طاقات من الجمال وليد التخييل المدهش .
5ـ اللغة
للوهلة الأولى تجذبك اللغة ويبهرك الأداء اللغوي (لبهجت صميدة) ولا شك أن المقام ليس مقام مجاملة أو إبداء إعجاب وإنما مقام دراسة وتمحيص ونقد يميز الجيد من الرديء ويتتبع الجمال في النص وتبقى اللغة هي جسم الشعر ، وهي أهم عناصر بنائهونعني بها اللفظة المفردة ومدى فصاحتها ، وصحة استخدامها ، وملائمتها لغيرها من الألفاظ ، وقدرتها على نقل الإحساس والفكر بعمق دون تعقيد
وهذا ما نجده في قصائد الديوان لغة سهلة فصيحة سلسة لا يشوبها غموض معجمي يخرجها عن إطار العصر ، ولا يشوبها ركاكة أو عامية استخدام تبعدها عن فصاحة العربية الأصيلة
هي لغة رشيقة اتكأ فيها شاعرنا على معجمه المهتم بعناصر الوجود ولذلك نجد ألفاظا بعينها تكررت كثيرا مثل :
(الشمس / النور / أحيا / أموت / الموج / الزبد / النهر / الزرع / الأرض / يترعرع / صفصاف / الريح / شاطئ / المطر / الطين / النجم / الطيور / ماء / العصافير / النهار / الليل / جبال / النار / الأفاعي / اليود / الملح / نخيل / الثلوج / الرمال / الكهوف / الورد .........)
لا يخفى ما لهذه الألفاظ من دلالات جاهزة ، وإيحاءات مستقرة في ذهن المتلقي حتى لو قرأها هكذا منفصلة ، لكن الشعرية الحقة تكمن في قدرة الشاعر على استخدام اللفظ بأكثر من هوية .. هويته الأصلية ، هوية استخدامه ، هوية مجاورته مع غيره
أيضا هذه الألفاظ عكست اهتمام شاعرنا الكبير بعلاقته بالوجود المحيط به سواء الوجود الحقيقي أو الوجود الافتراضي ،
أو الوجود الحقيقي ولكن كما يراه الشاعر :
فالليل ألقى علينا السواد
وكفن فينا الحياة
وخبأ عنا اخضرار المياه
التي وصلت لفمي
لتكف لساني
وتنحت منه جبال الكلام
التي كونتها القصائد
من نبضات العصافير ..
لا شك أن المفردات : الليل / الحياة / السواد / اخضرارا ... تستطيع أن تغلب أي شاعر بغنى مدلولاتها الجاهزة لكن الشاعر الجيد المبدع الخلاق يجعل الليل في نفسه غير الليل المتعارف عليه ، والحياة غير الحياة ، وهكذا ..
أيضا السطور السابقة وهي من نص (العصافير ترفض موتي) أوضحت كيف انتقل الشاعر من الوجود المحيط إلى الوجود الداخلي لذاته (الوجود البديل) ولا شك أن براعة الشاعر اللغوية مكنته من ذلك الانتقال السلمي (جبال الكلام – القصائد ..) هذا الوجود البديل رسم الشاعر حدوده الخمس :
جسده / روحه / قلبه / شعره / عقله .. هذا الوجود سماؤه (بهجت) ، أرضه (بهجت) .. رسالته الحلم ، ورسوله الشاعر ، فهل من مؤمنين ... ؟؟؟!!!
لا تخشى ناري (الطير الوحد صـــــــ 76)
فأنا من نار لا تحرق من يؤمن بي ..
هذا الوجود البديل به نار وجنة وثواب وعقاب ..
هذا الوجود لا دليل عليه إلا شعره بل لا دليل على (بهجت) ذاته خير من شعره ..
من هنا نجد مستوى آخر من المفردات أو قل معجما خاصا بالوجود البديل الذي طرحه الشاعر من خلال ذاته عبر شعره مثل :
(عيني – القلب – جسد – روح – كلام – شعر – حلم – غربة – جبين – دم – حلقي – الأمعاء – يد – جلود – الجفون – فم – لسان – نبض – أسنان – الشرايين – الأوردة – الخلايا – الرأس – شَعْري ....)
لا شك أن هذا المعجم وسابقه سالف الذكر ، يجعلان القارئ يستطيع أن يجزم أن شعرية (بهجت صميدة) تكرس لعالمين ، وجوديين : وجود محيط (أعاد صياغته أو قل اكتشافه)
ووجود داخلي (قام بتخليقه افتراضيا)
من خلال براعته في الربط بين هذين الوجودين استطاع عبر لغته الطيعة وشعريته الواعية أن ينتج وجودا بديلا متكاملا من عالم شعري مبهر .
كذلك يعكس معجم (بهجت) اللغوي قدرته على مزج الألفاظ العصرية بالألفاظ التراثية فهو شاعر عاش في زمن ما لكن شعره سيعيش في زمنه والزمن الآتي ، واستمد جذوره من الزمن السابق وتلك سمة الفن الخالد
وجاءت ألفاظه العصرية مثل : (الشاي – المقهى – الفطائر – جوازي – الشنط – الرطوبة – كرات دمي البيض – فنجان – بنك الدم – بلازما – البنج ...) متناغمة في انسيابية تامة مع ألفاظه التراثية مثل : (الزبد – ريْن – سِدرة – دِمنة – المسغبة – ضمّخ / .............)
قد يقول قائل إن اللفظ العصري أو اللفظ التراثي اختراع أو وهم من النقاد .. لكن الواقع العملي للإبداع يناقض ذلك .
لا شك أن صفة العربية تنطبق على كل مفردات العربية لكن كلمة (ضمخ) عربية وهي في نفس الوقت لم تعد كثيرة الاستعمال بعكس كلمة مثل (بنك الدم)
وهذا المزج من شاعرنا نابع من إيمانه بأن واحدة من أبرز مهام الشاعر – دون وعي ذهني مفرط – إحياء بعض الألفاظ التراثية المهجورة ، وإضفاء فصاحة على بعض الألفاظ العربي قريبة الاستعمال من العامية ..
لكن هل تختار القصيدة اللغة ؟ أم تختار اللغة القصيدة ؟
لا هذا ولا ذاك .. الشاعر هو من يختار الاثنين تحت سطوة الشعرية الحقة فقط لذلك فبهجت هو من قال :
فكيف ألقي بذرتي في دمنةٍ
ما غسلت بالماء باطنها ..
وهو أيضا من قال :
أعلن بنك الدم أن فصائل حلمي
قد تتوفر بعد قليل
أعلن أن بلازما الحب – الآن –
انتشرت في طرقاتي ..
هل يمكنك أن تغير لفظا ؟ هل يمكن للفظ أن يستوقفك ويعطل الشعرية أم أن اللفظ أحد أبرز خدام الشعرية لدى (بهجت)
اللغة ذلك الجسد الذي لا يشيخ ، اللغة ذلك الوعاء الذي لا يقل أهمية عما يحويه .. تلك اللغة أحيانا ما تبدو كالإعاقة الجسمانية لبعض الشعراء ، وأحيانا يوفق بعض الشعراء وأحيانا أقل أقل أقل تصبح اللغة جناحات طيعة تصل بالشاعر أبعد السماوات .
من هنا فإن النصوص العظيمة من سماتها أنها تحمل لغة تجعل القارئ الواعي يسأل ذاته : هل تلك المفردات الموجودة في النص هي ذاتها المفردات التي كنت أعرفها خارج النص ؟!!
نعم لكنها خارج النص كانت جثة مثلجة ، وداخل النص صارت تفيض بالحياة متنوعة الدلالات والإيحاءات بل متلاحقة ومتنامية الإيحاءات .
6ـ الموسيقى
للموسيقى في ديوان (العصافير ترفض موتي) شأن في الحديث
بداية الديوان بأكمله يلتزم الوزن (شعر التفعيلة) وقد نوع في استخدام البحور الصافية (المتدارك – المتقارب- الكامل – الرجز – الوافر – المديد) وإن كانت البحور الثلاثة الأولى سيطرت على معظم أوزان الديوان
والشاعر متمكن في استخدامه الوزن فهو أصيل علمه بالعروض ، متمكن منه في رشاقة دون تكلف أو صعوبات أو لجوء إلى الرخص ، حتى تكاد لا تجد في الديوان أي لفظ مجلوب لاستقامة الوزن بل انسيابية كاملة دالة على عمق دراسة ، وحسن فطرة ، وغنى موهبة وطاقات لغوية ثرية جدا ، لكن الأبرز أن شاعرنا أبدع في استخدام الإيقاع الموسيقي وبالطبع الإيقاع أكثر رحابة من الوزن فمثلا قد توجد خمس قصائد من بحر الكامل لكن لكلٍّ إيقاعها الموسيقي الملائم لمحتوى القصيدة :
فمثلا انتعاش صـــــــــــــــ 10 من بحر الكامل
الشعر يغسلني ويمنحني نهارا من جديد
يستل من قلبي الهموم يذيبها مثل الجليد
ويطير بي نحو السماء أداعبُ النجم البعيد
وأعود منتعشا كأني ألفُ إنسان سعيدْ
إيقاع كله حيوية وحب للآتي رقيقا آملا ليس صاخبا .
هذا الإيقاع يصبح قويا متحديا في (حياة) صــــــــــــــ 11 من الكامل أيضا :
الآن منطلق أنا نحو البداية
فاحملي عني قليلا من هموم العالمين
ويصبح أكثر قوة وتحدٍ في ختام (للبحر رأي آخر) صــــــ 62 حين يقول :
إذا الشعر يوما أراد الحياة
فلابد للخوف أن يندثر
ولابد أن يصحو الشاعر المتكلس
أو ينتحر
ولا تخفى علينا معارضته للثوري الكبير (أبو القاسم الشابي)
ويصبح حزينا دافعا للأسى والتأمل في (مساء الدخان) صـــــــــــــ 13
ما للمواويل استكانت
والطريق محاصر باللافتات
وعلى المقاهي برتمي وجع السنين
ويزداد إيقاع الكامل هدوءا أشبه بهدوء الزهاد حتى لا تكاد تتحسس الموسيقى الصامتة في (مقطع من قصيدة الموت) صــ 15
الموت ماء
ليس ركوب الحياة سوى رؤاه
يضمني قبر بعرض سماء ذاكرتي ..
فأمشي طالبا نفسي
فتنكرني
ولا يحمي ضياعي غير ذرات التراب
لا شك أن تلك ليست إلا نماذج تعكس كيف يبرع الشاعر في تلوين إيقاع بحر واحد لكل تلك الألوان وما كان ليتأتى ذلك إلا من خلال :
1- عاطفة صادقة مهيمنة .
2- براعة لغوية وثراء يمكن من الانتقاء بسهولة .
3- خبرة صرفية بدلالات بنية الكلمات .
4- إيمان الشاعر أن الصوت واحد من مكونات العمل الشعري الدالة جدا .
هذا الوعي بقيمة الصوت والموسيقى هو ما جعل بهجت في نص (منذ كم ألف عام رأيتك ؟!) يبدو راقصا مرحا بموسيقى عالية دون صخب تشبه في إيقاعها نبض القلب فيقول :
هو الحب
يغرد فوق القلوب الشباكا
فترقص فيها الدماء
وتنعم بالقيد
ترفض أن تتخيل منه فكاكا
وتقسم أن الحياة بدون الحبيب
تصير الهلاكا ..
ولا شك أن التزامه قافية مطلقة (الكاف الممتدة) دون تكلف ساعده على نقل إيقاعه ، هذا الإيقاع تحمل بنجاح كبير نقل المعنى والإحساس حتى لك أن تفترض معي لو أن شخصا لا يعرف العربية وسمع السطور السابقة لأقنعته موسيقى بهجت بالحب والرقص في خفة هذا هو الشعر العظيم يعلو فوق لغته ذاتها ..
لغة تتجاوز حد الحروف الاصطلاحية (تنتهي بابتداء الألف) 29
نفس تلك الموسيقى العالية والإيقاع الراقص الذي استخلصه (بهجت) من المتقارب في (منذ كم ألف عام رأيتك) استطاع (بهجت) أن يكتشف درر الإيقاع الراقص من أعماق بحر (الوافر) في نصه (يجب الحب ما قبله) :
وغنى مثلما غنت عصافيري
(يجب الحب ما قبله)
وطوفي حول قلبي سبع مرات
لينبت في ربا عينيك زيتونا
إن العصافير هي حروف (بهجت) ، والأجنحة خياله الخلاق وإحساسه الصادق ، وفضاؤها شعره ..
ثم يستعرض (بهجت) إمكاناته الموسيقية في (الرقص في قاع البحور) وكم كان موفقا حين استهل قصيدته الأخيرة بأبيات عمودية واختتمها واختتم ديوانه بأبيات عمودية حيث قال في آخر صفحات ديوانه :
فقم وارقص في أعماق البحور
ونح الآن أشواك المسير
فموسيقاك تعزف من جديد
لتحيي ما تبقى من زهور
عصافيرك حتما سوف تبقى
تقود جميع أنواع الطيور
تعلمها الحياة لكل موت
ولو بالرقص في قاع البحور
أي عصافير تلك التي ستوحد كل الطيور إلا عصافير روحك الشاعرة يا شاعرنا المبدع
لا شك أنها دلالة عظيمة – عندي – أن يختتم الشاعر ديوانه بأبيات عمودية لعلها – سواء قصد أم لا – رسالة
أن العربية بموروثها هوية لا تقبل المساومة
أن الحداثة مهما تتجاوز لن تتجاوز أصول لغتنا
أن الشاعر المتمكن شديد الانطلاق شديد الحرية الداعي للتحرر يستطيع أن يمارس فنه بمنتهى الانطلاق والحرية داخل قواعد فنه .
ختام
(العصافير ترفض موتي) ديوان يشتبك فيه الإنسان والوجود أو بمعنى أوضح يشتبك فيه الشاعر بذاته الشاعرة ضد ذاته البشرية ويشتبك فيه وجوده الفيزيقي بوجوده الافتراضي / الحلملكن شاعرنا كان رائع الوعي فلم يهدف في ديوانه لنبذ الحياة .. أو السخرية ممن عاشوها حسب إمكانيات فكرهم ، ولم يهدف إلى التعالي على اللغة أو المتلقي
إن (بهجت) في ديوانه كان واعيا بمهمة الشاعر والشعر نعم لقد كرس في ديوانه لأمرين شديدي الأهمية :
الأول : الجمال ، لأنه يعي أن الشعر فن يهدف إلى المتعة مهما كانت الجراحة دموية مهما كان الوجود قبيحا فهو يقدم فنا .
الأخير : الإنسان ، انحاز بهجت للإنسان وحاول أن يقنعه بأن الحلم مهما كان بعيدا أو واسعا أو حتى مستحيلا فليس المهم تحقيقه قدر ما يهم التمتع به وتصديقه :
أحلمُ
أحلمُ
أحلمُ
حتى أصدق حلمي ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق